قناة أنا سوريا: ولادة إعلامية في بيروت تعكس تحولات المنطقة وخارطة القوة الناعمة
قناة أنا سوريا ولادة إعلامية في بيروت تعكس تحولات المنطقة وخارطة القوة الناعمة

قناة أنا سوريا ولادة إعلامية في بيروت تعكس تحولات المنطقة وخارطة القوة الناعمة
بيروت، لبنان – قناة أنا سوريا، المشروع الإعلامي السوري الجديد، بدأ بثه التجريبي يوم الإثنين 14 يوليو 2025، في خطوة مفاجئة بقدر ما هي دالة. من قلب منطقة النقاش شمال بيروت، وتحديداً من استوديوهات قناة MTV اللبنانية، يبدأ هذا المشروع رحلته عبر قمر عربسات. لا يمثل هذا الحدث مجرد ولادة قناة جديدة، بل هو بمثابة مرآة تعكس التحولات السياسية العميقة، والبراغماتية الاقتصادية، وإعادة رسم خارطة القوة الناعمة في منطقة الشرق الأوسط التي لا تزال تشعر بتداعيات عقد من الصراع.

قناة أنا سوريا ولادة إعلامية في بيروت تعكس تحولات المنطقة وخارطة القوة الناعمة
لكي نفهم الأهمية المحتملة لقناة «أنا سوريا»، يجب أولاً أن نضعها في سياقها: المشهد الإعلامي السوري شديد الاستقطاب. منذ عام 2011، انقسم الإعلام المتعلق بسوريا إلى معسكرين رئيسيين. من جهة، هناك الإعلام الرسمي التابع للحكومة في دمشق، مثل التلفزيون العربي السوري وقناة الإخبارية السورية، والذي يقدم رواية الدولة الرسمية للأحداث. ومن جهة أخرى، برزت قنوات المعارضة التي تبث من خارج سوريا، كقناة “أورينت” و”تلفزيون سوريا”، والتي قدمت رواية مضادة.
بين هذين القطبين، بقيت مساحة ضيقة للأصوات المستقلة. وبالتالي، فإن قناة أنا سوريا تواجه سؤالاً حتمياً عند دخولها هذه الساحة: أين ستتموضع؟ هل ستصطف مع دمشق أم مع معارضيها؟ أم ستحاول، وهو التحدي الأصعب، أن تخلق “صوتًا ثالثًا” يركز على الشأن الاجتماعي والمعيشي للسوريين؟ اسم القناة يوحي بهذه النية الأخيرة، محاولاً مخاطبة هوية سورية جامعة تتجاوز الصراع.
الخلفية اللبنانية علاقة معقدة من الاحتضان إلى الاتهام والعودة
إن اختيار بيروت مقراً لإنتاج وبث القناة يضيف طبقة أخرى من التعقيد. فالعلاقة اللبنانية-السورية علاقة متشابكة تاريخياً وثقافياً وسياسياً. لبنان، الذي كان لفترة طويلة ساحة خلفية للإعلام العربي، يستضيف اليوم مشروعاً موجهاً لجاره الذي اتهمه سياسيون لبنانيون كثر، ومنهم ميشال المر نفسه، بالهيمنة تارة وبإغراق البلاد باللاجئين تارة أخرى.
وهنا تبرز المفارقة الكبرى التي يجسدها إشراف ميشال المر على المشروع. فبعد أن قاد حملات إعلامية وقضائية ضد “الوجود السوري في لبنان”، يعود اليوم ليحتضن مشروعاً إعلامياً سورياً في عقر داره. لا يمكن تفسير هذا التحول الجذري إلا من خلال عاملين: الأول هو الأزمة المالية الخانقة التي تضرب MTV وتجعل من أي استثمار خارجي شريان حياة. والثاني قد يكون قراءة سياسية جديدة للمشهد، مفادها أن التعامل مع الواقع السوري الجديد أصبح ضرورة، وأن بناء الجسور الإعلامية قد يفتح أبواباً اقتصادية وسياسية.

التمويل الإماراتي وتأثيره على هوية قناة أنا سوريا
تشير كافة المعلومات إلى أن المشروع ممول إماراتياً. هذا التمويل ليس تفصيلاً هامشياً، بل هو جوهر المشروع ومفتاح فهم توجهاته المحتملة. فلدولة الإمارات العربية المتحدة استراتيجية واضحة في بناء نفوذها الإقليمي عبر القوة الناعمة الإعلامية، وهو ما يظهر جلياً في شبكات كبرى مثل “سكاي نيوز عربية”.
غالباً ما تتبنى وسائل الإعلام المدعومة إماراتياً خطاباً يركز على “الاستقرار” ومحاربة “التطرف”. إذا طُبقت هذه الاستراتيجية على قناة أنا سوريا، فمن المرجح أن نرى محتوى يبتعد عن السياسة المباشرة ويركز على البرامج الاجتماعية والفنية والمنوعات. زيارة ميشال المر لدمشق ولقاؤه بوزير الإعلام السوري تشير إلى وجود ضوء أخضر من دمشق، التي قد ترى في قناة كهذه أداة غير مباشرة لتعزيز رواية عودة الحياة إلى طبيعتها.
فريق العمل والمحتوى وجوه شابة لرسالة غامضة
يقود دفة البرامج الرئيسية في قناة أنا سوريا فريق من الوجوه الشابة، أبرزهم لوتس مسعود، ابنة الفنان غسان مسعود، وأملي الجزائري، ابنة الممثلة صفاء سلطان، في برنامج منوعات بعنوان “اليوم أحلى”. هذا الاختيار يربط القناة بأسماء فنية لها قبول واسع لدى الجمهور السوري. لكن على الرغم من التمويل الخارجي، تفيد المعلومات بأن سياسة الأجور متقشفة، حيث لا تتجاوز الرواتب 600 دولار، مما يعكس واقع الأزمة الإعلامية اللبنانية التي أصبح فيها البلد منصة إنتاج “منخفضة التكلفة” للمشاريع الإعلامية الخليجية.

إن إطلاق قناة أنا سوريا من بيروت بتمويل إماراتي وإشراف لبناني مثير للجدل، هو أكثر من مجرد خبر إعلامي. إنه مؤشر على مرحلة جديدة في المنطقة، مرحلة تتراجع فيها الأيديولوجيات الحادة لصالح البراغماتية الاقتصادية.
ستبقى القناة تحت المجهر في الفترة القادمة. فهل ستنجح قناة أنا سوريا في كسب ثقة الجمهور السوري المتشكك؟ وهل ستتمكن من الحفاظ على مسافة من الأجندات السياسية لمموليها ومضيفيها؟ أم أنها ستتحول في النهاية إلى مجرد صدى لسياسات أبوظبي، أو أداة تطبيع ناعمة مع دمشق؟ الإجابة على هذه الأسئلة لن تحدد مصير القناة فحسب، بل ستكشف أيضاً عن الكثير من معالم المستقبل الذي يُطبخ للمنطقة بأكملها.