الشبكة المظلمة الحقيقية: هل الإنترنت الأقدم في العالم يعيش تحت أقدامنا؟
الشبكة المظلمة الحقيقية هل الإنترنت الأقدم في العالم يعيش تحت أقدامنا 20/7/2025

الشبكة المظلمة الحقيقية هل الإنترنت الأقدم في العالم يعيش تحت أقدامنا؟

الشبكة المظلمة الحقيقية هل الإنترنت الأقدم في العالم يعيش تحت أقدامنا
نحن نعيش على سطح عالمنا، نحدق في شاشاتنا بحثًا عن المعرفة والاتصال، ونعتبر شبكتنا العالمية من الألياف الضوئية والأقمار الصناعية ذروة الإنجاز البشري. لكن ماذا لو كانت هذه الشبكة الرقمية مجرد صدى باهت وتقليد حديث لشبكة أقدم وأعمق وأكثر حيوية؟ شبكة لا تعمل بالكهرباء، بل بالكيمياء الحيوية. شبكة ليست “افتراضية”، بل هي كائن حي هائل يغلف الكوكب بأكمله.
هذه ليست مقدمة لفيلم خيال علمي، بل دعوة للنظر تحت أقدامنا، إلى العالم المذهل والمجهول للفطريات وشبكاتها الخفية.
الويب الواسع الخشبي إنترنت الغابة
تحت تراب كل غابة صحية، تمتد شبكة لانهائية من الخيوط الفطرية الدقيقة، المعروفة باسم “الغزل الفطري” (Mycelium). ترتبط هذه الخيوط بجذور ما يقرب من 90% من النباتات على الأرض في علاقة تكافلية تسمى “الجذور الفطرية” (Mycorrhiza).
هذه الشبكة البيولوجية، التي أطلقت عليها عالمة البيئة الكندية الدكتورة سوزان سيمارد اسم “الويب الواسع الخشبي” (Wood Wide Web)، تعمل كنوع من الإنترنت البيولوجي. أثبتت أبحاث سيمارد الرائدة، التي نُشرت في مجلة Nature، أن الأشجار ليست كائنات فردية تتنافس على الموارد، بل هي جزء من مجتمع متعاون.
كيف تعمل هذه الشبكة:
- تبادل الموارد: تقوم الفطريات باستخلاص العناصر الغذائية الحيوية مثل الفوسفور والنيتروجين من التربة، والتي يصعب على جذور الأشجار الوصول إليها، وتوفرها للأشجار. في المقابل، تقوم الأشجار، من خلال عملية التمثيل الضوئي، بإنتاج السكريات الغنية بالكربون وتزويد الفطريات بها.
- دعم الأجيال الشابة: اكتشفت سيمارد أن الأشجار الأكبر والأقدم، التي أطلقت عليها اسم “الأشجار الأم“، تعمل كمحاور مركزية في هذه الشبكة. يمكنها إرسال العناصر الغذائية الزائدة إلى الشتلات الصغيرة التي تكافح من أجل ضوء الشمس، وحتى تفضيل أقاربها (نسلها) في هذه العملية.
- نظام إنذار مبكر: عندما تتعرض شجرة لهجوم من الحشرات أو الأمراض، يمكنها إرسال إشارات كيميائية عبر الشبكة لتحذير جيرانها. هذه الإشارات تحفز الأشجار المجاورة على إنتاج مواد كيميائية دفاعية خاصة بها للاستعداد للتهديد الوشيك.
القفزة نحو الغرابة ما وراء تبادل المغذيات

وهنا يبدأ المقال بالتعمق في الجوانب الأكثر غرابة وتكهنًا، والتي تستند إلى ملاحظات علمية مثيرة للجدل ولكنها تفتح آفاقًا جديدة للتفكير.
- الذاكرة الجيولوجية الحية: هل للأرض محرك أقراص صلب:
تخيل أن هذه الشبكة ليست مجرد نظام اتصالات، بل هي أرشيف حي وتاريخي للكوكب. يعتقد بعض العلماء، مثل عالم الفطريات الشهير بول ستاميتس، أن شبكات الغزل الفطري قد تكون قادرة على تخزين المعلومات بطرق لم نفهمها بعد.
- الذاكرة الكيميائية: كل حدث كبير – حريق هائل، جفاف طويل، عصر جليدي – يترك بصمة كيميائية في التربة. يمكن للشبكة الفطرية أن تتفاعل مع هذه البصمات وتدمجها في بنيتها، مما يخلق سجلاً طويل الأمد للتاريخ البيئي.
- التشابه مع الدماغ: يرى ستاميتس وآخرون أن بنية شبكة الغزل الفطري تشبه إلى حد كبير الشبكات العصبية في الدماغ. تتكون كلتاهما من عقد مترابطة قادرة على نقل الإشارات. هذا التشابه يفتح الباب أمام فكرة أن هذه الشبكات قد تمتلك شكلاً من أشكال الذكاء البيولوجي الموزع.
لمزيد من المعلومات حول أفكار بول ستاميتس، يمكنك مشاهدة حديثه الشهير في TED Talk: “6 طرق يمكن للفطر أن ينقذ بها العالم“.
- الوعي الموزع والذكاء النباتي:
إن مفهومنا للذكاء مرتبط بوجود دماغ مركزي. لكن شبكة الغزل الفطري تقدم نموذجًا للذكاء اللامركزي. لا يوجد مركز قيادة؛ كل جزء من الشبكة هو في نفس الوقت عقدة وخادم. فهل يمكن لكيان بهذا الحجم والترابط أن يطور شكلاً من أشكال الوعي الجماعي؟
- الأدلة على التعلم والذاكرة في النباتات: تظهر أبحاث جديدة أن النباتات نفسها قد تكون قادرة على التعلم وتكوين الذكريات. أظهرت تجارب على نبات “الميموزا بوديكا” (المستحية) أنها تتوقف عن الاستجابة لمنبه متكرر غير ضار، وتتذكر هذا “التعلم” لأسابيع. يشير هذا إلى وجود آلية للذاكرة لا تعتمد على الخلايا العصبية. يمكنك قراءة المزيد حول ذكاء النباتات هنا.
- هل الشبكة “تفكر”؟: إذا كانت النباتات الفردية قادرة على التعلم، فماذا عن نظام مترابط من آلاف النباتات المتصلة عبر شبكة فطرية؟ هل يمكن أن يكون “القرار” المتزامن لأشجار البلوط في منطقة شاسعة بإنتاج كميات هائلة من البذور في عام واحد (ظاهرة Mast Seeding) مجرد استجابة للطقس، أم أنه سلوك منسق يتم عبر الإنترنت البيولوجي لتحقيق أقصى فائدة للمجتمع بأكمله؟

إن شبكتنا الرقمية سريعة وفعالة وباردة. إنها تعتمد على المنطق الثنائي والبنية التحتية الهشة. في المقابل، الإنترنت الفطري بطيء وعضوي ودافئ. إنه مرن وقادر على الشفاء الذاتي، وقد نجا من كوارث كوكبية متعددة. شبكتنا تنقل البيانات، أما شبكتهم فتنقل الحياة نفسها.
إن وجود “الويب الواسع الخشبي” يجبرنا على إعادة التفكير في مفاهيم مثل الذكاء والتواصل والوعي. في المرة القادمة التي تمشي فيها في غابة، تذكر أنك لا تقف على أرض خاملة. أنت تقف على سطح محيط من الذكاء الغريب، شبكة اتصالات حية تحمل في طياتها ذاكرة الزمن نفسه. قد تكون أعظم اكتشافاتنا في المستقبل ليست في النجوم البعيدة، بل في العالم الصامت والغامض الذي يكمن تحت أقدامنا مباشرة.

للاطلاع على ملخص علمي حول كيفية تواصل النباتات عبر هذه الشبكات، يمكنك زيارة هذا المصدر من مؤسسة الغابات الوطنية.