
زياد الرحباني عبقرية السخرية والموسيقى المتمردة
بيروت، لبنان – يُعد زياد الرحباني، الذي غادر عالمنا مؤخراً، ظاهرة فنية وثقافية فريدة في المشهد اللبناني والعربي. على مدى عقود، نسج هذا الفنان الاستثنائي، المؤلف الموسيقي، والكاتب المسرحي، وعازف البيانو، والناشط السياسي، إرثاً غنياً من الأعمال التي تميزت بمزيجها النادر بين السخرية اللاذعة، والعمق الفلسفي، والتجديد الموسيقي الجريء. لم يكن زياد مجرد فنان، بل كان صوتاً لجيل كامل، ومؤرخاً فنياً ساخراً لتحولات مجتمعه السياسية والاجتماعية.
وُلد زياد الرحباني في الأول من يناير عام 1956، في حضن عائلة فنية بامتياز. فوالده هو الموسيقار الراحل عاصي الرحباني، أحد عملاقي “الأخوين رحباني”، ووالدته هي أسطورة الغناء العربي، السيدة فيروز. نشأ في بيئة تتنفس الموسيقى والفن، وهو ما صقل موهبته الفذة منذ نعومة أظافره.

زياد الرحباني عبقرية السخرية والموسيقى المتمردة
كانت بداية زياد الرحباني الفعلية في عالم التلحين لافتة ومبكرة. ففي السابعة عشرة من عمره، وفي فترة مرض والده عاصي، لحّن لوالدته أغنية “سألوني الناس” التي أصبحت أيقونة في مسيرتها الفنية. لم يكن هذا اللحن مجرد سد لفراغ مؤقت، بل كان إعلاناً عن ولادة موهبة موسيقية ستترك بصمتها الخاصة والمختلفة عن مدرسة “الأخوين رحباني”.
استمر تعاونه مع فيروز في ألبومات كاملة شكلت منعطفاً في مسيرتها، مثل “وحدن” (1979)، و”معرفتي فيك” (1987)، و”كيفك إنت” (1991). أدخل زياد على موسيقى فيروز أنماطاً جديدة كالـ “جاز” و”الفانك”، ممزوجةً بالروح الشرقية، وبكلمات تعكس واقعاً يومياً أكثر مباشرة وجرأة، بعيداً عن الطابع الحالم الذي غلب على أعمالها السابقة. أثار هذا التحول جدلاً واسعاً بين من رآه تجديداً ضرورياً ومن اعتبره خروجاً عن الإرث الرحباني الأصيل.

المسرح الرحباني مرآة المجتمع الساخرة
شكل المسرح السياسي الساخر العمود الفقري لتجربة زياد الرحباني الفنية. فمن خلال مسرحياته، قدم نقداً لاذعاً ومباشراً للطبقة السياسية اللبنانية، وللطائفية، وللانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي شهده لبنان خلال الحرب الأهلية وما تلاها.
من أبرز أعماله المسرحية:
- سهرية (1973): أولى مسرحياته التي أظهرت ملامح أسلوبه الساخر.
- نزل السرور (1974): مسرحية سياسية بامتياز، انتقدت الواقع اللبناني بحدة.
- بالنسبة لبكرا، شو؟ (1978): تعتبر من أشهر أعماله، وتناولت هموم الشباب اللبناني وأحلامهم المجهضة في ظل الحرب.
- فيلم أميركي طويل (1980): سخرية مريرة من التدخلات الخارجية في الشأن اللبناني.
- شي فاشل (1983): نقد لاذع للفساد السياسي والاجتماعي.
- لولا فسحة الأمل (1994): نظرة سوداوية ولكن ساخرة لواقع ما بعد الحرب.
تميز مسرح زياد بحواراته الذكية والعميقة التي تحولت إلى أقوال مأثورة يتداولها الناس، وبشخصياته التي تجسد نماذج حية من المجتمع اللبناني. كما كانت الموسيقى والأغاني جزءاً لا يتجزأ من هذه الأعمال، حيث قدم من خلالها مجموعة من أروع ألحانه التي غناها فنانون ارتبطت أسماؤهم بتجربته مثل الراحل جوزيف صقر وسامي حواط.

أسلوبه الموسيقي تمرد على القوالب
لم يلتزم زياد الرحباني بالقوالب الموسيقية التقليدية. كان مجدداً وباحثاً دائماً عن صيغ جديدة. يعتبر من رواد موسيقى “الجاز الشرقي”، حيث استطاع أن يدمج ببراعة بين المقامات الشرقية وتقنيات وأساليب موسيقى الجاز والبلوز والفانك الغربية. ألبوماته الموسيقية الخاصة، مثل “أنا مش كافر” و”بما إنو” و”هدوء نسبي”، تعد شهادات على هذه العبقرية في المزج والتأليف الموسيقي.
المواقف السياسية والشخصية المثيرة للجدل
لم يكن زياد الرحباني فناناً معزولاً في برجه العاجي. عُرف بمواقفه السياسية اليسارية الواضحة، وانتمائه الفكري للحزب الشيوعي اللبناني. عبّر عن هذه المواقف بجرأة في أعماله ومقابلاته وكتاباته الصحفية، حيث كان له عمود أسبوعي في جريدة “الأخبار” اللبنانية.
كانت آراؤه الصريحة وتصريحاته “الصادمة” أحياناً، حتى في ما يتعلق بعلاقته بوالديه، سبباً في جعله شخصية مثيرة للجدل، لكنها في الوقت نفسه أكسبته صدقية لدى شريحة واسعة من الجمهور الذي رأى فيه صوتاً حقيقياً لا يخشى قول الحقيقة، مهما كانت مزعجة.
إرث باقٍ
رحل زياد الرحباني، لكن إرثه الفني والفكري باقٍ. أعماله المسرحية والموسيقية لا تزال حية وراهنة، وكأنها كُتبت اليوم، وهو ما يدل على عمق رؤيته وقدرته على قراءة واقعه ومستقبله. سيظل زياد الرحباني أيقونة التمرد الفني والسياسي، الفنان الذي علّم أجيالاً أن الضحك والسخرية يمكن أن يكونا أقوى أسلحة مقاومة القبح والفساد.