سوريا عند مفترق طرق رمزي: الهوية البصرية الجديدة تُطلق الليلة في احتفالات ضخمة وتكتم شديد

سوريا عند مفترق طرق رمزي الهوية البصرية الجديدة تُطلق الليلة في احتفالات ضخمة وتكتم شديد

دمشق، سوريا – في لحظة فارقة ومشحونة بالرمزية، تتجه أنظار الملايين داخل سوريا وخارجها مساء اليوم، الخميس، إلى العاصمة دمشق. عند تمام الساعة التاسعة مساءً بتوقيت دمشق، سيُرفع الستار عن الهوية البصرية الجديدة للجمهورية العربية السورية، في حدث يُنظر إليه على أنه أكثر من مجرد تغيير لشعار، بل إعلان عن ولادة فصل جديد في تاريخ البلاد المعاصر.
يمثل هذا الحدث تتويجاً لأشهر من العمل السري والمكثف، وخطوة تحمل في طياتها دلالات سياسية واجتماعية عميقة، تهدف إلى إعادة تعريف صورة الدولة ورسم ملامح مستقبلها تحت قيادتها الجديدة.
احتفالات مركزية ورسائل متعددة
لن يكون الاحتفال حدثاً عابراً. فمن المقرر أن يتصدر الرئيس السوري، أحمد الشرع، الحضور في الحفل الرئيسي الذي اختير له موقع ذو دلالة تاريخية ووطنية عظيمة: صرح الجندي المجهول في دمشق. هذا الاختيار ليس من قبيل الصدفة؛ فالصرح الذي يخلد تضحيات الجنود السوريين عبر التاريخ، يصبح اليوم منصة لإطلاق رمز جديد للدولة، في إشارة واضحة إلى محاولة ربط المستقبل الجديد بتضحيات الماضي، وتقديم سردية وطنية جامعة.
وبشكل متزامن، ستشهد ساحة المعارض بريف دمشق، وهي مركز اقتصادي وحيوي، احتفالاً موازياً ضخماً، مما يبعث برسالة عن أهمية الجانب الاقتصادي والتنموي في الرؤية الجديدة للبلاد. وتمتد الاحتفالات لتشمل معظم مراكز المحافظات السورية، في خطوة تهدف إلى إشراك أوسع قاعدة شعبية ممكنة في هذه اللحظة الرمزية، والتأكيد على وحدة سوريا الجغرافية والشعبية في ظل الهوية الجديدة.
المعلومات المتوفرة شحيحة لكنها واعدة؛ حيث تشير إلى أن الاحتفال سيتضمن عروضاً بصرية “عالية الاحترافية”، يُتوقع أن تستخدم فيها أحدث التقنيات مثل الإسقاط الضوئي على المباني (Projection Mapping) وربما أسراب من الطائرات المسيرة (الدرونز) لرسم تشكيلات فنية في سماء العاصمة، لتجسيد قصة الهوية الجديدة ومكوناتها البصرية بطريقة مبهرة ومؤثرة.
وداع النسر نهاية حقبة وبداية أخرى
يبقى الحدث الأبرز الذي يترقبه الجميع هو اللحظة التي سيتم فيها الإعلان رسمياً عن استبدال شعار “نسر قريش”. هذا الشعار، الذي تبنته سوريا منذ عقود في صيغ مختلفة، ليس مجرد رمز على الأوراق الرسمية، بل هو جزء من الذاكرة البصرية العربية الحديثة، مرتبط بالتيار القومي العربي الذي ساد في منتصف القرن العشرين. النسر، الذي يرمز للقوة والسيادة، ارتبط بشكل وثيق بحقبة تاريخية محددة وبأيديولوجياتها.
قرار استبداله اليوم هو قرار جريء ومحوري، يمثل قطيعة رمزية واضحة مع الماضي. إنه إعلان بأن سوريا الجديدة تتجه نحو تعريف مختلف لنفسها، قد يبتعد عن الأيديولوجيات التقليدية ليركز على هوية وطنية سورية خالصة، أو ربما يتبنى رموزاً أكثر ارتباطاً بالتاريخ السوري القديم أو المستقبل الذي تتطلع إليه. هل سيكون الرمز الجديد مستوحى من الحضارات السورية المتعاقبة كالأبجدية الأوغاريتية، أو نجمة منقوشة على ألواح إيبلا، أم سيكون رمزاً تجريدياً بالكامل يمثل التجدد والانطلاق؟ هذه التكهنات تملأ الفضاء العام، وتزيد من حدة الترقب.
سرية تامة مشروع دولة بأعلى مستويات الأهمية
ما يزيد من ثقل هذا الحدث هو الهالة الكبيرة من السرية التي أحاطت بالمشروع منذ انطلاقته الفعلية مطلع العام الحالي. لقد تم التعامل معه باعتباره واحداً من المشاريع السيادية بالغة الأهمية. فبحسب مصادر مطلعة، تم توقيع جميع القائمين على المشروع، من مصممين وفنيين ومنفذين، على عقود تتضمن شروطاً جزائية صارمة وغير مسبوقة، تمنعهم منعاً باتاً من تسريب أي معلومة أو تلميح حول طبيعة الهوية الجديدة أو شكل الشعار.
هذه السرية التامة لا تهدف فقط إلى تحقيق عنصر المفاجأة، بل تعكس أيضاً رغبة السلطة الجديدة في التحكم الكامل بالسردية المحيطة بهذا التغيير الجوهري. إنها تضمن أن يكون الإعلان الأول رسمياً، ومقدماً للشعب والعالم وفق الرؤية التي أُعدت له، دون تشويش أو تأويلات مبكرة قد تفرغ الحدث من مضمونه. كما أنها تدل على مدى الجدية التي يتم بها التعامل مع أدق تفاصيل بناء صورة الدولة في المرحلة المقبلة.
ما وراء الرمز براندنج أمة في مرحلة انتقالية
إن ما تقوم به سوريا اليوم يندرج ضمن مفهوم حديث يُعرف بـ”براندنج الأمم” أو “الهوية الوطنية التجارية” (Nation Branding). ففي عالم اليوم، لم تعد الدول تكتفي بالرموز التقليدية، بل تسعى لصناعة “هوية بصرية” متكاملة تكون بمثابة علامة تجارية للدولة. هذه الهوية لا تقتصر على الشعار والعلم، بل تمتد لتشمل خطوطاً وألواناً وتصاميم محددة تُستخدم في كافة المخاطبات الرسمية، وفي السفارات والمؤسسات الحكومية، وعلى المنتجات الوطنية وفي الحملات السياحية والاستثمارية.
تهدف هذه العملية إلى تقديم صورة متماسكة وحديثة عن الدولة، قادرة على المنافسة عالمياً وجذب الاستثمارات والسياح، والأهم من ذلك، تعزيز شعور المواطنين بالانتماء والفخر الوطني. وفي حالات التحول السياسي الجذري، كما هو الحال في سوريا الآن، تلعب الهوية البصرية الجديدة دوراً حاسماً في إعلان القطيعة مع النظام القديم وبناء الثقة في المستقبل. إنها رسالة موجهة للداخل والخارج على حد سواء، مفادها أن “سوريا تتغير”.
في الختام، تقف سورَيا الليلة على عتبة لحظة تاريخية. إطلاق الهوية البصرية الجديدة ليس مجرد تغيير في الشكل، بل هو جوهر رسالة سياسية وثقافية عميقة. سيكون الرمز الذي سيتم الكشف عنه الليلة محط أنظار ومحور نقاشات طويلة، وسيقرأه المحللون كلٌ من زاويته. لكن الأهم هو كيف سيستقبله الشعب السوري، وهل سيصبح هذا الرمز الجديد بالفعل أيقونة جامعة لمرحلة من الأمل والتجدد، قادرة على حمل أحلام وتطلعات السوريين نحو المستقبل. العالم يراقب، وسوريا تكتب سطراً جديداً في قصة هويتها.