منوعات
أخر الأخبار

صابون الغار الحلبي تراث عالمي: تتويج لقرون من الأصالة والإبداع في عام 2025

صابون الغار الحلبي تراث عالمي: تتويج لقرون من الأصالة والإبداع في عام 2025

صابون الغار الحلبي تراث عالمي تتويج لقرون من الأصالة والإبداع

في خبر سارّ على الصعيد الثقافي العالمي، تم إدراج صابون الغار الحلبي الشهير على قائمة التراث الثقافي اللامادي لمنظمة اليونسكو في ديسمبر 2024. ويأتي هذا الاعتراف العالمي ليؤكد على القيمة التاريخية والحرفية لهذه الصناعة السورية العريقة، التي صمدت عبر العصور وحافظت على أسرارها وتقاليدها، لتصبح أيقونة لمدينة حلب ورمزاً من رموز التراث السوري الحي.

يُمثل هذا الإدراج تتويجاً لجهود الحرفيين والمهتمين بالتراث السوري، الذين سعوا طويلاً للحفاظ على هذه الحرفة من الاندثار في وجه التحديات الجسام التي مرت بها سوريا ومدينة حلب على وجه الخصوص. إنه ليس مجرد اعتراف بمنتج، بل هو تكريم للمعرفة والمهارات والطقوس الاجتماعية المرتبطة بصناعته، والتي تناقلتها الأجيال كجزء لا يتجزأ من هويتها الثقافية.

صابون الغار الحلبي تراث عالمي: تتويج لقرون من الأصالة والإبداع في عام 2025

صابون الغار الحلبي تراث عالمي تتويج لقرون من الأصالة والإبداع

يمتد تاريخ صناعة صابون الغار الحلبي، أو “الذهب الأخضر” كما يطلق عليه، إلى آلاف السنين. تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن أصوله تعود إلى ما قبل 2000 عام قبل الميلاد، مما يجعله أحد أقدم أنواع الصابون الصلب في العالم. وقد ازدهرت هذه الصناعة في مدينة حلب، التي شكلت على مر العصور مركزاً تجارياً عالمياً على طريق الحرير، مما ساهم في انتشار شهرة هذا الصابون ووصوله إلى مختلف أنحاء العالم.

ويُعتقد أن الفينيقيين، سكان الساحل السوري القدماء، كانوا من أوائل من أتقنوا هذه الحرفة، ونقلوها عبر المتوسط إلى أوروبا. وتاريخياً، كان الصليبيون أحد أبرز من نقلوا صابون حلب إلى أوروبا بعد حملاتهم على الشرق، حيث شكل الأساس لصناعة صابون مرسيليا الشهير في فرنسا وصابون نابلس في فلسطين.

على مر القرون، ارتبطت هذه الصناعة بعائلات حلبية عريقة توارثت أسرار المهنة أباً عن جد، وأقامت “المصابن” التقليدية في قلب حلب القديمة، وهي مبانٍ أثرية بحد ذاتها، تفوح من جدرانها رائحة الزيتون والغار، وتحكي قصة إرث عظيم.

فن الصناعة التقليدية طقوس سنوية من الإبداع

إن ما يميز صابون الغار الحلبي ليس فقط مكوناته الطبيعية، بل أيضاً عملية تصنيعه التقليدية التي لم تتغير كثيراً عبر الزمن. تبدأ هذه العملية مع نهاية موسم قطاف الزيتون في أواخر فصل الخريف وبداية الشتاء، وتستمر لعدة أشهر في طقس احتفالي يشارك فيه “المعلم” و”الصُنّاع”.

المكونات الأساسية بسيطة وطبيعية:

  • زيت الزيتون: المكون الأساسي الذي يمنح الصابون خصائصه المرطبة والمغذية.
  • زيت الغار: يُستخرج من ثمار شجرة الغار، ويُعرف بخصائصه المطهرة والمضادة للبكتيريا والفطريات، وهو ما يمنح الصابون رائحته المميزة وفوائده العلاجية. وتعتمد جودة الصابون وقيمته على نسبة زيت الغار فيه.
  • محلول الصودا الكاوية (هيدروكسيد الصوديوم): الذي يتم الحصول عليه تقليدياً من نبات “الأشنان” أو “القِلْي”، وهو ضروري لعملية التصبن.
  • الماء: يستخدم في عملية الطبخ والغسيل.

مراحل التصنيع:

  1. الطبخ: تبدأ العملية بوضع زيت الزيتون في قدور نحاسية ضخمة. يضاف إليه محلول الصودا الكاوية والماء، ويُسخن الخليط على نار هادئة لعدة أيام مع التحريك المستمر.
  2. إضافة زيت الغار: في المرحلة الأخيرة من الطبخ، يضاف زيت الغار ويُخلط جيداً ليمنح الصابون خصائصه الفريدة.
  3. الصب والتبريد: بعد انتهاء عملية الطبخ والتأكد من تمام التصبن، يُسكب مزيج الصابون الساخن على أرضيات واسعة ومستوية مجهزة خصيصاً في “المصبنة”، ويُترك ليبرد ويتصلب لعدة أيام.
  4. التقطيع والختم: عندما يصل الصابون إلى درجة الصلابة المناسبة، يقوم العمال بتمهيده وتقطيعه يدوياً إلى مكعبات متساوية باستخدام أداة تشبه المشط تسمى “الجّك”. بعد ذلك، تُختم كل قطعة صابون بختم الصانع، الذي غالباً ما يحمل اسم العائلة المصنّعة ونسبة زيت الغار، في دلالة على الأصالة والجودة.
  5. التجفيف (التعتيق): تُصف مكعبات الصابون على شكل أبراج هرمية متداخلة تسمح بمرور الهواء من خلالها. وتُترك لتجف وتتعتق في أماكن باردة وجافة وجيدة التهوية لمدة تتراوح بين ستة أشهر إلى سنة كاملة. خلال هذه الفترة، يتبخر الماء الزائد، وتزداد صلابة الصابون، ويتحول لونه الخارجي من الأخضر الزمردي إلى الذهبي الباهت، بينما يبقى قلبه أخضر اللون.
صابون الغار الحلبي تراث عالمي: تتويج لقرون من الأصالة والإبداع في عام 2025

القيمة الثقافية والاقتصادية أكثر من مجرد صابون

لم يكن صابون الغار مجرد سلعة تجارية في حلب، بل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي للمدينة. فقد شكلت صناعته موسماً اقتصادياً مهماً يوفر فرص عمل للعديد من العائلات. كما ارتبطت طقوس استخدامه بعادات النظافة والحمام الحلبي التقليدي، وكان هدية ثمينة تُقدم للأصدقاء والزوار.

اقتصادياً، لعب صابون الغار دوراً حيوياً في اقتصاد حلب وسوريا، حيث كان يُصدر إلى مختلف أنحاء العالم، حاملاً معه اسم “صنع في سوريا” كعلامة على الجودة والأصالة. وعلى الرغم من التحديات الهائلة التي واجهتها هذه الصناعة بسبب سنوات الحرب المدمرة، والتي أدت إلى تدمير العديد من المصابن وتوقف الإنتاج، إلا أن بعض الحرفيين أصروا على الاستمرار، ونقلوا حرفتهم معهم إلى أماكن أخرى داخل سوريا وخارجها، مساهمين في الحفاظ على هذا الإرث.

فوائد الذهب الأخضر كنز من الطبيعة للبشرة والشعر

تكمن شهرة صابون الغار الحلبي في فوائده العديدة التي يستمدها من مكوناته الطبيعية الخالصة، فهو خالٍ تماماً من المواد الكيميائية والعطور الصناعية والملونات.

  • للبشرة: يعتبر مرطباً طبيعياً بفضل غناه بزيت الزيتون. يساعد على تغذية البشرة ومنحها النضارة والحيوية. كما أن زيت الغار يمنحه خصائص مطهرة ومضادة للالتهابات، مما يجعله مفيداً في حالات حب الشباب، الأكزيما، والصدفية، وتهيج الجلد.
  • للشعر: يساعد على تغذية فروة الرأس وتقوية بصيلات الشعر، مما يقلل من تساقطه. كما يساهم في علاج قشرة الرأس بفضل خصائصه المضادة للفطريات.
  • آمن لجميع أنواع البشرة: بفضل تركيبته الطبيعية، يعتبر صابون الغار مناسباً لجميع أنواع البشرة، بما في ذلك بشرة الأطفال الحساسة.
صابون الغار الحلبي تراث عالمي: تتويج لقرون من الأصالة والإبداع في عام 2025

تحديات الحاضر وآفاق المستقبل

إن إدراج صابون الغار الحلبي على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي اللامادي ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لمرحلة جديدة من المسؤولية للحفاظ على هذا التراث وضمان استدامته. تواجه هذه الحرفة اليوم تحديات عدة، منها:

  • صعوبة تأمين المواد الأولية: خاصة زيت الغار عالي الجودة.
  • المنافسة من المنتجات التجارية الرخيصة: التي غالباً ما تستخدم مكونات صناعية.
  • هجرة الحرفيين المهرة: بسبب الظروف الصعبة.
  • الحاجة إلى الدعم والترويج: لفتح أسواق جديدة وضمان وصول المنتج الأصلي للمستهلكين.

إن هذا الاعتراف الدولي يسلط الضوء على ضرورة تضافر الجهود المحلية والدولية لدعم الحرفيين، وتوثيق معارفهم، وتشجيع الأجيال الجديدة على تعلم هذه الحرفة العريقة. فصابون الغار ليس مجرد قطعة صابون، بل هو حكاية مدينة، وذاكرة أجيال، ورائحة تاريخ يرفض أن يندثر. إنه بحق، تراث عالمي يستحق كل التقدير والحماية.

روابط خارجية ذات صلة:

في الختام، لا يمثل إدراج صابون الغار الحلبي على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي اللامادي مجرد شهادة تقدير دولية، بل هو بمثابة شعلة أمل تضيء درب المستقبل لهذه الحرفة التاريخية. إنه اعتراف بقيمة الصبر والإتقان، وبصمود الحرفيين الحلبيين الذين تشبثوا بتراث أجدادهم في أصعب الظروف، وحملوا “الذهب الأخضر” كأمانة عبر الأجيال.

إن هذا التتويج العالمي يضع على عاتق الجميع، من منظمات دولية ومؤسسات محلية وأفراد، مسؤولية مشتركة لصون هذه المعرفة الفريدة. فالحفاظ على صابون الغار لا يعني فقط حماية منتج طبيعي ذي فوائد جمة، بل هو حماية لذاكرة وهوية مدينة حلب، وضمان لاستمرارية إرث إنساني حي يروي قصة حضارة عريقة امتزجت فيها الطبيعة مع إبداع الإنسان. ليبقى عبق الغار والزيتون يفوح من حارات حلب القديمة، شاهداً على أصالة الماضي، ومُلهماً لأجيال المستقبل.

مشاركة المقال:
                    0
                    1
                    1
                    1

مقالات ذات صلة

اترك رد