وداعاً لـ "المحتوى الرائج": يوتيوب يطوي صفحة تاريخية ويعمق الغوص في عالم الخوارزميات في 2025

وداعاً لـ المحتوى الرائج يوتيوب يطوي صفحة تاريخية ويعمق الغوص في عالم الخوارزميات
في خطوة مدوية تعكس تحولاً جذرياً في فلسفة اكتشاف المحتوى، أعلنت منصة يوتيوب عن قرارها التاريخي بحذف صفحة “المحتوى الرائج” (Trending)، تلك القائمة التي كانت لفترة طويلة مقصداً للملايين لمعرفة ما يشغل العالم الرقمي. هذا التغيير، الذي يدخل حيز التنفيذ تدريجياً، لا يمثل مجرد إزالة لخاصية، بل هو إعلان صريح عن نهاية حقبة وبداية عصر جديد تهيمن فيه الخوارزميات الشخصية بشكل شبه كامل على تجربة المستخدم، مما يثير أسئلة عميقة حول مستقبل صناعة المحتوى، ودور المنصات في تشكيل الثقافة الرقمية.
بدلاً من القائمة العامة الموحدة التي حاولت عبثاً أن تجمع شتات الاهتمامات العالمية في مكان واحد، سيقدم يوتيوب نظاماً جديداً يعتمد على قوائم متخصصة للمحتوى الرائج ضمن فئات محددة مثل الموسيقى، الألعاب، والأفلام. هذا التحول يأتي كاعتراف من يوتيوب بأن فكرة “الرائج” لم تعد مفهوماً واحداً جامعاً، بل أصبحت فسيفساء معقدة من الاهتمامات المتشعبة والمجتمعات المتخصصة.

وداعاً لـ المحتوى الرائج يوتيوب يطوي صفحة تاريخية ويعمق الغوص في عالم الخوارزميات في 2025
لم يكن قرار إزالة صفحة “المتوى الرائج” وليد اللحظة. فقد أقرت يوتيوب بأن عدد زيارات المستخدمين لهذه الصفحة شهد تراجعاً كبيراً على مدار السنوات الخمس الماضية. ويعود هذا التراجع إلى تغير سلوك المستخدمين أنفسهم، الذين أصبحوا يعتمدون بشكل متزايد على خوارزميات التوصية الشخصية التي تقدمها المنصة على الصفحة الرئيسية، وفي قسم “الفيديوهات التالية”، وحتى داخل خلاصات “شورتز”.
كانت صفحة “المحتوى الرائج”، التي أُطلقت في عام 2015، تهدف في الأساس إلى خلق تجربة مشاهدة مشتركة، وإعطاء المستخدمين لمحة سريعة عن الفيديوهات التي تحقق انتشاراً واسعاً. لكن مع مرور الوقت، واجهت هذه الصفحة انتقادات لاذعة. اتهمها العديد من صناع المحتوى المستقلين بأنها تفضل بشكل غير عادل المحتوى القادم من المؤسسات الإعلامية الكبرى، وشبكات التلفزيون، وشركات الإنتاج الموسيقي، التي تمتلك ميزانيات ضخمة وقواعد جماهيرية جاهزة. نادراً ما كانت الفيديوهات القادمة من قنوات صغيرة أو متوسطة تجد لنفسها مكاناً في هذه القائمة المرموقة، مما جعلها أداة غير فعالة لاكتشاف المواهب الجديدة.
علاوة على ذلك، أصبحت طبيعة “الترند” نفسها أكثر تجزئة. فالاتجاهات لم تعد تتشكل على مستوى عالمي موحد، بل داخل مجتمعات ومجموعات اهتمام أصغر وأكثر تحديداً، من مجتمعات الألعاب المتخصصة إلى محبي موسيقى البوب الكوري، ومن هواة الطبخ إلى متابعي أخبار التكنولوجيا. أدركت يوتيوب أن محاولة جمع كل هؤلاء في قائمة واحدة لم يعد يعكس بدقة ما هو “شائع” ومنتشر بالفعل.
البديل تخصيص الرائج وعصر الاستكشاف الجديد
البديل الذي تقدمه يوتيوب يتمحور حول فكرة التخصص والتخصيص. بدلاً من صفحة “المحتوى الرائج” العامة، سيتم توجيه المستخدمين إلى “مخططات يوتيوب” (YouTube Charts) التي تقدم قوائم متخصصة وأكثر دقة للمحتوى الأكثر شعبية في فئات محددة:
- الموسيقى: سيجد محبو الموسيقى قوائم لأكثر الأغاني والفيديوهات الموسيقية رواجاً، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الفنانين الصاعدين.
- الألعاب: ستكون هناك قوائم مخصصة لمقاطع الفيديو المتعلقة بالألعاب، والتي تشمل المراجعات، والبث المباشر، ومقاطع اللعب.
- الأفلام والبرامج: ستعرض هذه الفئة إعلانات الأفلام والمسلسلات الأكثر شعبية، والمقاطع الترويجية التي تثير اهتمام الجمهور.
هذا التوجه نحو القوائم المتخصصة يهدف إلى عرض محتوى أكثر تنوعاً وملاءمة لاهتمامات كل مستخدم على حدة. وبجانب هذه القوائم، ستلعب علامة التبويب “استكشاف” (Explore) دوراً أكبر في مساعدة المستخدمين على اكتشاف محتوى جديد خارج نطاق توصياتهم المباشرة، حيث ستضم فئات مثل “صناع المحتوى الصاعدون” و”الجواهر الخفية” التي يتم تنسيقها لتسليط الضوء على محتوى عالي الجودة من قنوات قد لا تكون معروفة على نطاق واسع.
تأثير التغيير على صناع المحتوى: فرصة أم تحدٍ؟
يثير هذا التحول الجذري نقاشاً واسعاً في أوساط صناع المحتوى. فمن ناحية، يرى البعض أن إزالة صفحة “المحتوى الرائج” بشكلها القديم هو خطوة إيجابية. فلطالما كانت هذه الصفحة مصدراً للإحباط لصناع المحتوى الصغار والمتوسطين الذين شعروا بأنهم مستبعدون من دائرة الضوء. الآن، مع وجود قوائم متخصصة، قد تتاح لهم فرصة أفضل للظهور أمام جمهور مهتم بالفعل بنوع المحتوى الذي يقدمونه.
ولمساعدة صناع المحتوى على التكيف مع هذا الواقع الجديد، تشدد يوتيوب على أهمية الأدوات المتاحة داخل “استوديو يوتيوب” (YouTube Studio)، وتحديداً علامة التبويب “الإلهام” (Inspiration)، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم أفكار مخصصة للفيديوهات بناءً على ما يبحث عنه جمهور القناة.
ومن ناحية أخرى، يبدي بعض صناع المحتوى قلقهم من أن الاعتماد المتزايد على الخوارزميات الشخصية قد يؤدي إلى خلق “فقاعات ترشيح” أو “غرف صدى”، حيث يصبح المستخدمون معزولين داخل اهتماماتهم الخاصة، وتقل فرص تعرضهم لأفكار وآراء متنوعة. كما أن غياب مؤشر عام ومركزي لـ “الرائج” قد يجعل من الصعب على صناع المحتوى رصد الاتجاهات الثقافية الأوسع نطاقاً وتوظيفها في محتواهم.
ولتخفيف هذه المخاوف، أعلنت يوتيوب عن اختبار ميزات جديدة تهدف إلى دعم صناع المحتوى الصاعدين، مثل خاصية “Hype”، التي تسمح للمشاهدين بدعم الفيديوهات الجديدة التي تعجبهم للمساعدة في زيادة ظهورها، واستمرار برنامج “Creators on the Rise“ الذي يسلط الضوء على قنوات واعدة عبر منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بيوتيوب.

نظرة إلى المستقبل هيمنة الخوارزمية وتآكل التجربة المشتركة
إن قرار يوتيوب بالتخلي عن صفحة “المحتوى الرائج” هو أكثر من مجرد تحديث لواجهة المستخدم؛ إنه يعكس تحولاً أعمق في كيفية استهلاكنا للمحتوى عبر الإنترنت. لقد انتقلنا من عصر كانت فيه الثقافة الرقمية تتشكل حول لحظات فيروسية كبيرة ومشتركة، إلى عصر تهيمن عليه ملايين اللحظات الصغيرة والمتخصصة التي تحدث في وقت واحد.
هذا التحول، الذي تقوده منصات مثل تيك توك وتتبناه الآن يوتيوب بشكل كامل، له تداعيات بعيدة المدى. فبينما تزداد تجربة المستخدم تخصيصاً وملاءمة، هناك خطر حقيقي من تآكل التجربة الثقافية المشتركة. عندما يكون كل شخص في عالمه الرقمي الخاص، الذي صممته له الخوارزميات بدقة، فهل سنفقد القدرة على التحاور حول أحداث ومواضيع مشتركة؟
في نهاية المطاف، يمثل وداع صفحة “المحتوى الرائج” لحظة فارقة في تاريخ يوتيوب. إنه اعتراف بأن محاولة إرضاء الجميع بقائمة واحدة أصبحت مهمة مستحيلة في عالم الإنترنت المجزأ. وبينما تراهن المنصة على قوة الخوارزميات لتقديم تجربة أكثر ثراءً وتخصيصاً، يبقى السؤال مفتوحاً حول الثمن الذي قد ندفعه جميعاً مقابل هذه الكفاءة، وحول مستقبل الثقافة الرقمية في عالم يزداد فيه الانغماس في فقاعاتنا الخاصة. لمعرفة المزيد حول كيفية عمل توصيات يوتيوب، يمكنك زيارة مركز مساعدة يوتيوب.